Monday, May 18, 2009

عسل للبيع

فرحة خالد بعروسه، كانت تفوق الوصف، يلاحقها في البيت، يمسك بها، يحملها فوق ذراعيه، يخرج بها قاطعا الساحة الترابية للحوش نحو المكان الذي يكون فيه والده وأمه واخوته وهو يصيح بفرح: عنّا عسل للبيع، ورد للبيع!!. ويظل يكرر ذلك وهو يدور حولهم، وفي واحدة من المرات، أوشك أن يصعد بها للسطح لولا أن الحاج محمود أمسك به في اللحظة الأخيرة. اركز يا ولد..قالت منيرة، لكنها كانت فرحة بفرحه.
*****
انتشرت أخبار تعلقه بعروسه، أصبحت حديث أهل الهادية، الرجال لم يقبلوا بالأمر، وتهامست النساء فيما بينهن:هيك الرجال ولا بلاش!! وبعد أقل من شهر كانت نظرات الحسد تمزق العروسة حيثما ظهرت، ولم يقف الأمر عند هذا الحد.. ذات يوم كان يجلس مع عدد من شباب القرية، وحين راحوا يتهامسون، انتفض، وقال لماذا تستغربون، عليّ الطلاق إنها أحلى من الشمس والقمر!!
فصمتوا.
بعد يومين كانوا يتناولون طعام الغذاء في الحقل، حين راحوا يشككون بما سمعوه منه، فما كان منه إلا أن قال: على الطلاق إنها أحلى من الشمس وأحلى من القمر.
فقالوا له : ما الذي قلت يارجل، هل يعقل أن تكون هناك إمرأة أحلى من الشمس والقمر وهما أبهى وأجمل ماخلق الله، تضيء لنا الشمس نهارنا وينير لنا القمر ليلنا؟!!
راح يفكر فيما قالوه له، نظر إلى إمرأته، لم يكن لديه أي شك، هي أحلى.
اكتمال القمر بعد سبع ليال كان مناسبة للحديث في ذلك من جديد، حدق رمضان نصر الله في البدر وقال: انظروا هل يمكن لإنسان أن يكون أجمل من هذا الذي أبدعه الله
فهم خالد الملاحظة، فالتفت إليه وقال: هي. علي الطلاق إنها أجمل.
عند ذلك ساد الصمت فجأة، سأل: شو في؟!!
- لقد طلقت امراتك التي تحب ثلاث مرات دون أن تدري. من ذلك المجنون الذي يمكن أن يقول بأن هناك إمرأة أحلى من الشمس والقمر معا؟!! قال له محمد شحادة.
كطعنة مباغتة أحس بالكارثة.
جنَّ، راح يركض نحو أبيه، أمه. ذهب إلى الشيخ حسني الذي اعتصر عمامته كما لو أنه يعتصر رأسه: وقال دعني أفكر. من أين أتيت لي ولنفسك بهذه المصيبة؟!!
نظر إلى امرأته أحس بأن هناك مسافة هائلة تفصله عنها، كما لو أن بينهما بحر، عاد للشيخ حسني صباح اليوم التالي فوجده يعتصر عمامته كما تركه، جلس بباب المسجد منتظرا، لكن ثلاثة أيام أخرى لم تحمل له مايعيد الأمان لقلبه.
ترك الهادية، هام على وجهه، حتى وصل القدس، وكلما التقى بشيخ، راح يرجوه أن يقول له شيئا، وألا يكتفي بالصمت مثلما يفعل الجميع.
مضى قاطعا البلاد من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دون جدوى. وذات يوم ، وجده الشيخ ناصر العلي ملقى على طرف حقله، وبجانبه فرسه، انحنى عليه، سقاه قليلا من الماء، وأسنده.
لم يعرف خالد كيف وصل إلى هنا، لأن الإنسان الوحيد الذي يود الفرار منه طوال الوقت، هو ذلك الإنسان، الذي ذهب بنفسه رئيسا للجاهة، وهاهو يسوِّد وجهه برعونته.
- ما الذي أصابك ياولدي؟ إن كنا نستطيع أن نعينك أعناك، وإن كانت لك حاجة في هذه البلاد سعينا معك من أجلها
كان الصمت الذي قابله به الجميع قد استقر عميقا فيه ولايغادره، نظر خالد إلى الشيخ ناصر وبدأ يبكي.
بعد ثلاثة أيام سأله الشيخ ثانية، فراح يبكي من جديد.
لكن شيئا ما أليفا في وجه الشيخ ناصر أطلق لسانه من جديد: زوجتها لي وأضعتها أنا.
وانفرطت مسبحة الكلام.
*****
صمت الشيخ، راح يعبث بلحيته البيضاء، وقف، تمشّى مابين جداري الحوش عاقدا يديه خلف ظهره، محدقا في السماء بعينيه العميقتين، كما لو أنه يريد تقليب صفحاتها بقامته القصيرة المشدودة ووجهه الصغير كوجوه الأطفال، وقال: والدك عزيز عليّ يا خالد، ومن قبله جدك، لقد كنت ضيفي لثلاثة أيام، فأرجو ان تكون ضيفي ليوم رابع. وعسى الله يلهمني حلا لهذه القضية
بعد ساعات اقترب منه الشيخ، قال له أعرف أنك بحاجة لأن تعود أكثر من حاجتك أن تبقى.
هز خالد رأسه: وهل وجدت الحل يا والدي؟
- إن شاء الله، هيا انهض، جهز فرسك وتوكل على الله، عسانا نصلي العصر في الهادية.
راحا يقطعان السهول، يصعدان التلال، ويلتفان بفرسيهما حول الحقول والكروم الخضراء، وبين لحظة وأخرى، كان الشيخ يستحثه: توكل على الله ياولدي، لايكون إلا الخير إن شاء الله.
*****
لاحت لهم الهادية عالية فوق التل، شد خالد الرسن، توقفت فرسه. اعتصر جبينه بأصابع يده اليسرى مطرقا،عاد الشيخ بفرسه للوراء: لم يبق الكثير، هاقد وصلنا، لقد انتظرت كثيرا ولم يبق إلا القليل.
من فوق التلال اندفعت الهادية، تجمع الرجال الذين يعملون في الحقول، وكثير منهم يمزقه الندم، بسبب ذهابهم في تح\يه إلى تلك الدرجة. أما فرحة الحاج محمود وأمه وأخوته وأخته العزيزة وعمته الأنيسة، برؤيته ثانية فكانت تفوق الوصف. وقبل أن يتوجه الحاج محمود إلى ولده اندفع نحو الشيخ وهو يصيح: الشيخ ناصر العلي!! لقد أعدت لنا الروح بتشريفك قريتنا، وأعدت لنا الروح بعودة ابننا ياهلا ياهلا. عشاؤك عندنا الليلة، وعشاء أهل البلدة كلهم.
أشار لأحد الرجال فاندفع طائرا، انتقى عددا من الخراف، وبدأ العمل على الفور. كان الشيخ ناصر العلي واحدا من اهم القضاة العشائريين في البلاد كلها وأشجعهم وأكثرهم حكمة، وهذا ما أعاد الأمل ثانية إليهم.
تلفت خالد عساه يرى إمرأته، لم يجدها، قال له والداه: إنها في البيت ولكن تذكر إنها محرمة عليك. هز رأسه بأسى موافقا.
*****
في المضافة التي وصلوا إليها أخيرا، صامتا ظل الشيخ ناصر إلى ذلك الحد الذي لم يستطع معه حمدان أن يضع قهوة جديدة في مهباشه ليعدها للضيف، فحمل المهباش وابتعد به كثيرا، وبهدوء راح يطحن القهوة ودموعه تسيل.
حين عاد لاحظ الناس آثار الدموع في عينيه بوضوح، تناول سالم ابن الحاج محمود الدلة والفناجين منه، صب القهوة، دق مصب القهوة بطرف الفنجان حتي لاتسقط أي قطرة على الأرض، أمسك الحاج محمود الفنجان بيده اليمنى وقدمه بنفسه للشيخ ناصر العلي.
حان وقت الآذان، قال لهم الشيخ ناصر، قرأ الشيخ ناصر الفاتحة ثم راح يقرأ سورة التين (بسم الله الرحمن الرحيم. والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين، لقد خلقنا الشمس والقمر في أحسن تقويم) وعندما سمع المصلون ذلك ثار بعضهم، وقالوا أخطأت ياشيخ
صمت قليلا، فصمتوا، ثم قطع الصلاة، استدار إليهم وسألهم: وما الذي يقوله الله تعالى. ردوا: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
راح الشيخ ناصر يهز رأسه كما لو أنه يفكر في مسألة ليس لها حل، ثم قال: مادمتم تعرفون أن الله يقول ذلك، وأن الإنسان هو اجمل خلق الله، فلماذا تفرقون بين الرجل وإمرأته!!!
عم الصمت من جديد، وإذ أدرك خالد ما يقصده الشيخ، اندفع نحوه يعانقه ويقبل يديه. أما الشيخ حسني فقد ضرب جبهته: كيف لم يخطر ببالي هذا؟! فقال الحاج محمود لأنه لم يخطر ببال أحد.
*****
لكن فرحتهم لم تدم طويلا، ذات يوم خرجت من حوشها عندما سمعت بائعا يصيح معلنا عن بضاعته، بادلته ثلاث بيضات بحفنتي قطين، وعند المساء كانت تصيح: بطني
في البداية ظنوا أنها علي وشك أن تسقط حملها، لكن شنارة داية البلدة أكدت لهم (هذه المسألة لا تتعلق بجنينها) وبعد ساعتين من ألم لايوصف، استلها الموت وخالد متشبث بها..
ولزمن طويل ظل يهذي:كيف استطاع أن يأخذها من بين يدي وأنا متشبث بها؟؟
!
إبراهيم نصر الله
زمن الخيول البيضاء

Tuesday, May 12, 2009

لماذا أحذر في الحب يا رفقة

"قلتُ لكَ إختبيء عنهم، ولم تسمع قولي." قالت (رفقة). (رفقة) الجمال الناعس، ذات الأربعة عشر ربيعا. ملمسها كاسمها. والوقت لديها سهلٌ جدا. يعكف الطفل الذي كنتُ في عينيها محاولا التعرف للونهما. أقول هما أقرب للخضرة المغبشة بالندى. (رفقة) التي أتت مع أبيها (عم جرجس) من أسيوط – لدي من وقتها يقين قاطع، ومدافعٌ، بأن لدى أسيوط أجمل بنات وجه قبلي-. المولد قريبٌ من مدرستي، في الطفولة تجتذبني ألعاب الموالد لأقضي يومي هناك. بداية من (النشان) الذي لم أنجح فيه يومًا، وتختلف في هذا تفسيراتي، ففي أحيان كنت أرجع هذا لمالك طاولة بنادق الرش –فهو يقوم بلي مقدمة ماسورة البندقية لكي يمنع عن رواده الفوز، وكان هذا تفسيرا ملطفا لفشلي المتوالي فيه-، ولكن بعد ذلك كنت صريحا لأعرف أن ارتعاشة خفيفة في يدي تمنعني عن دقة التصويب. اللعبة التي كنت أكثر فشلًا فيها – وبشكل أهلك نقودي البسيطة- كانت شيئا أشبه بالروليت ( صفيحة تقطع على شكل دائرة، وتكتب عليها الأعداد، وتدور أخذة معها مافي جيبي من نقود). أيضا كان هناك السيرك ، وألعاب السيرك في الموالد لاتعتمد على استعراض الحيوانات، أو رشاقة المؤدين. بل على الغرائبي، أذكر المرأة السمكة، والتي لا أعرف حتى اليوم كيف يقومون بعرضها، وعم (جرجس) الذي يضع يده على رأس أي فرد في القاعة ليبلغه بما في جيبه، وماكان، وماسوف يكون –فيما بعد، وحين واظبت على الحضور اليومي لأرى (رفقة) سأعرف أن عم (جرجس) ينبيء نفس الأشخاص كل يوم بمصائرهم.- . االفضول لمعرفة لون عينيها، وتلك البشرة الغريبة التي بين السمرة والحمرة بدرجة محيرة، كانا يدفعاني لجذب الكلام من فمها. يا(رفقة) الصمت لديكِ أجمل، يا (رفقة) حروفك متكسرة مثل طفلة، وعينيكِ براءة. يا (رفقة) لو شبهتك بالآلات لسميتكِ نايا. يا(رفقة) الخوف موجع. يا(رفقة) لماذا أحذر من أبيك وأهلك بينما أنت لاتحذرين مني؟!..يا(رفقة) أنت بكرٌ مثل قريتك، وأنا أول ساكنيكِ. يا (رفقة) لماذا أحذرُ دوما في الحب.."قلت لك إختبيء عنهم، ولم تسمع قولي"..وعدم السماع كلفني علقة موجعة من أهلك, وندبة في روحي من أثر عينيك تبحث عن عين أخرى لتزيلها يا(رفقة